يتضح من هذه الطرق إثبات الكرسي وأنه موضع القدمين، وأنه غير العرش؛ ورد كذلك عن أربعة من السلف : عن أبي موسى، وابن عباس، وأبي مالك، ووهب بن منبه.
فما ورد عن ابن عباس وعن وهب بن منبه صحيح، وما ورد عن أبي موسى لم يثبت، وما ورد عن أبي مالك شيخ السدي - لم يثبت أيضاً؛ لكن ما ورد عن ابن عباس وصح يكفي في الاعتماد عليه؛ لأن هذا مما له حكم الرفع ومما لا يقال بالرأي.
والإمام الحافظ ابن أبي شيبة وكذلك اللالكائي قد ذكرا رواية أبي مالك ورواية أبي موسى، وأما رواية ابن عباس ورواية وهب بن منبه فلم يذكراها لكن هي التي ثبتت.
ونذكر من كتاب السنة رواية أبي موسى قال: [[الكرسي موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل]]. وهو نفس الحديث السابق.
ثم ذكر أثراً آخر بعده وهو عن السدي عن أبي مالك [[في قوله تعالى: ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ))[البقرة:255] قال: إن الصخرة التي تحت الأرض السابعة ومنتهى الخلق، على أرجائها أربعة من الملائكة، لكل ملك منهم أربعة وجوه: وجه إنسان، ووجه أسد، ووجه نسر، ووجه ثور؛ فهم قيام عليها قد أحاطوا بالأرض والسماوات، ورءوسهم تحت الكرسي، والكرسي تحت العرش، قال: وهو واضع رجليه تبارك وتعالى على الكرسي]]، وهذا من جملة التفسيرات التي نقلت، لكن سبق أن قلنا: إنها لا تصح فقد قال عبد الله بن أحمد : حدثنا أبي نا رجل ..؛ وهذا مبهم.
وأما الرواية الأخرى -وهي رواية ابن عباس رضي الله عنهما -فقد ذكرها أيضاً الإمام عبد الله بن أحمد بسنده إلى أن قال: {إن الكرسي الذي وسع السماوات والأرض لموضع قدميه، وما يقدر قدر العرش إلا الذي خلقه} وفيه زيادة أخرى قال: {وإن السماوات في خلق الرحمن جلَّ وعز مثل قبة في صحراء} يعني: ما السماوات بالنسبة إلى العرش والكرسي إلا مثل قبة في صحراء؛ ثم قال عبد الله بن أحمد بعد ذلك: عن سفيان عن ليث عن مجاهد قال: [[ما السموات والأرض في الكرسي إلا كحلقة في أرض فلاة]] ثم ذكر بعد ذلك رواية عبد الله بن خليفة التي فيها ذكر الأطيط أيضاً، وقد سبق أن نقلنا كلام الإمام الذهبي رحمه الله في ذلك.
والشيخ ناصر هنا ذكر بعضه في مختصر العلو الحديث (85) صفحة (123)؛ قال الذهبي رحمه الله: "حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: [[الكرسي موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل]] أخرجه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات، وليس للأطيط مدخل في الصفات أبداً، بل هو كاهتزاز العرش لموت سعد، وكتفطر السماء يوم القيامة.. ونحو ذلك، ومعاذ الله أن نعده صفة لله عز وجل، ثم لفظ الأطيط لم يأت من نص ثابت" انتهى كلام الذهبي.
ثم قال الشيخ ناصر : "قلت: وإسناده موقوفاً صحيح" ثم أحال التخريج إلى "عبد الله في السنة، وأبو جعفر بن أبي شيبة في العرش، ورجاله كلهم ثقات معروفون، وأعله الكوثري المعروف بانحرافه عن أهل السنة في تعليقه على الأسماء والصفات بأن في إسناده عمارة بن عمير ذكره البخاري في الضعفاء".
قال الشيخ ناصر: "قلت: كذا قال، وهو خطأ محض، ولست أدري أوقع ذلك منه سهواً أم عمداً، فالرجل قد بلونا منه المغالطة التي تشبه الكذب، بل الكذب نفسه، كما بين ذلك العلامة اليماني في رده العظيم عليه المسمى بـالتنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل.
أقول هذا؛ لأن عمارة بن عمير تابعي ثقة اتفاقاً، وقد أخرج له الشيخان في صحيحيهما، وقال الحافظ: ثقة ثبت، ومثله لا يمكن أن يخفى على مثل الكوثري، وليس هو في ضعفاء البخاري كما زعم، وإنما فيه عمارة بن جوين وهذا متروك! فغفرانك اللهم" انتهى كلام الشيخ ناصر.
والكوثري له اطلاع واسع لا يفطن لتلبيساته إلا العالم المتمكن في علم الرجال.
ونخلص من هذا إلى أن الكرسي حق وأنه أصغر من العرش وأنه موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى.
ثم قال المصنف بعد ذكره حديث ابن عباس: "وقد روي مرفوعاً، والصواب أنه موقوف على ابن عباس .
وقال السدي : السماوات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش" وهذا أيضاً مما يدل على أن العرش غير الكرسي.
وقال أيضاً: "وقال ابن جرير : قال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض} وقيل: كرسيه علمه" وهذا القول ذكره ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى واختاره، أي: أن الكرسي هو العلم، وهذا خطأ منه رحمه الله وغفر لنا وله، وهذا من الأخطاء التي قد يقع فيها العلماء، ولكن لا يُقرون على خطئهم مع علو مكانتهم وقدرتهم.
يقول المصنف: {وينسب إلى ابن عباس، والمحفوظ عنه ما رواه ابن أبي شيبة} وقد رواه أيضاً الحاكم والبيهقي "كما تقدم، ومن قال غير ذلك" أي من قال: إنه ليس كما ذكر ابن عباس "فليس له دليل إلا مجرد الظن، والظاهر أنه من جراب الكلام المذموم" يعني: قد يكون في كلام العالم الجليل من أهل السنة شيء منقول عن أهل الكلام المذموم -وإن لم يشعر هو بذلك- وهذا يرجحه المصنف رحمه الله تحرزاً؛ لأن أهل الكلام بثوا سمومهم في معظم الكتب؛ في شروح السنة وفي التفاسير وفي غيرها.
يقول: "كما قيل في العرش، وإنما هو كما قال غير واحد من السلف بين يدي العرش كالمرقاة إليه" يرجح القول الذي هو منقول عن الصحابة مثل قول ابن عباس رضي الله عنه، والذي هو الصحيح في عقيدة أهل السنة والجماعة، وأما ما قاله الإمام أبو جعفر بن جرير أو من تبعه ممن قبله أو بعده، فإن كان القائل من أهل السنة، فهذا قد وقع في شيء من كلام أهل الكلام المذموم.
ولو أننا أخذنا في نقاش هذا القول نقاشاً عقلياً بالمعنى والفهم والاستنباط، لتبين لنا أنه لا يصح أن يفسر الكرسي بالعلم؛ لأن الله تعالى يقول: ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ))[البقرة:255] فإن قلنا: وسع علمه السموات والأرض لم يصح ذلك؛ لأن علم الله أحاط بكل شيء، وعلمه ليس فقط في السموات والأرض، فلا معنى لأن يقال: إن علم الله وسع السموات والأرض، فكلام الله تعالى ينزه عن أن يكون لا معنى له أو لا يتسم بالذروة في البلاغة، أما إذا فسر الكرسي بأنه مخلوق عظيم من مخلوقات الله سبحانه وتعالى وأنه أكبر من السماوات والأرض وما هي منه إلا كما ذكر في الآثار، فهذا هو الحق.